المفسّرون وحركة الشمس والأرض في القرآن

نادر رزق*

يزعم بعض المشككين أن القرآن يقرر صراحة أن الأرض ثابتة، وأن الشمس تدور حولها، وقد فات هؤلاء لفرط جهلهم، أو تجاهلهم، أن يرجعوا إلى القرآن نفسه الذي لم يذكر مطلقا هذا الكلام، إنما هو كلام المفسرين الذين سأبين سبب الاجتهاد عندهم في هذا الصدد.

القرآن الكريم كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمتصيّدون لأخطاء المفسرين يحاولون دائما ربط ذلك بالقرآن، ويتناسون أن علماءنا لطالما أكدوا أن رأيهم صواب يحتمل الخطأ، كما قال الإمام الشافعي. ويتناسى هؤلاء المشككون كذلك أن العلم الذي يضربون بسيفه الآن حقائقُه التي نُسخت أكثر من أن تحصى، وهذا لم ينقص من قدره، وليس أدل على ذلك من اعتقاد العلماء في بداية القرن العشرين أنهم قد وصلوا بالفيزياء إلى درجة الكمال والأمر لا يحتاج سوى لبعض "التشطيبات" الرياضية للتوصل إلى المجهول من حقائق الكون، وثبت أنهم كانوا ما يزالون في بداية الطريق، حتى أن تلك المعرفة السابقة أصبح يُطلق عليها الفيزياء الكلاسيكية.

القرآن ليس مطالباً بتوضيح تفصيلي للظواهر الكونية، لأنها ليست من أصل الدين، وكما قال الإمام علي: "ليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال حضر رجاله، وليس كل ما حضر رجاله حضر أوانه". والمشككون لم يفتهم أن يستغلوا ما قاله بعض علماء الدين المعاصرين ممن اعتقدوا بدوران الشمس حول الأرض، اعتماداً على كلام قاله علماء من السلف الذين استندوا في ذلك إلى العلوم المحدودة في زمانهم التي بدت غير متناقضة مع ظاهر القرآن والعيان. إذ يقرر الشيخان ابن عثيمين (ت 2002م)، وابن باز (ت 1999م) في كتابه المثير للجدل (الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب)، الذي يبدو أنه تراجع عن كثير مما ورد فيه لأنني لم أجد له ذكراً في موقعه الرسمي على الإنترنت، أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها، استناداً إلى ظاهر القرآن؛ يقول ابن عثيمين في رد على سؤال حول ذلك "ومسألة دوران الأرض وعدم دورانها الخوض فيها في الواقع من فضول العلم لأنها ليست مسألة يتعين على العباد العلم بها" لكنه يختم قائلا "..والمهم أنه يجب علينا في هذه المسألة أن نؤمن بأن الشمس تدور على الأرض وأن اختلاف الليل والنهار ليس بسبب دوران الأرض ولكنه بسبب دوران الشمس حول الأرض"!

ومن الواضح أن الإغراق في التقليد هو ما ورطهما في هذا الاعتقاد الخاطئ الذي يتنافى قطعياً مع الواقع، علماً أنهما لم ينكرا كروية الأرض لأنهما، كما يبدو، اقتديا بعلماء السلف كابن القيم وأستاذه ابن تيمية الذين اعتقدوا بذلك، لكن فاتهما أن هذه المعرفة استند فيها الأوائل على ما قاله علماء الهيئة (الفلك) في زمانهم وثبتت صحتها عندهم عقلياً بما لا يتناقض مع القرآن، لا اعتماداً على الظاهر. فكان الأولى أن يكون الاقتداء بالسلف في المنهج لا المعتقد الذي يتغير مع الزمن وليس من أصول الدين.

لقد وردت كلمة "الشمس" في 32 موضعاً في القرآن، لم يذكر في أي منها مطلقاً أنها تدور حول الأرض، أما الآيات التي تذكر حركة الشمس (باستثناء الشروق والغروب) فهي: "وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى" (الرعد 2)، "وَسَخَّر لَكُمُ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ دَآئِبَينَ" (ابراهيم 33)، "وَهُوَ ?لَّذِي خَلَقَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (الأنبياء 33)، "وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي? إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى" (لقمان 29، فاطر 13، الزمر 5)، "وَ?لشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا" (يس 38)، "لاَ ?لشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ?لقَمَرَ وَلاَ ?لَّيلُ سَابِقُ ?لنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس 40).

أما الآيات التي عززت عند المفسرين اعتقادهم بدوران الشمس حول الأرض، فهي من سورة الكهف: "وَتَرَى ?لشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ?لْيَمِينِ.." (17)، "حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ?لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ" (86)، "حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ?لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى? قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً" (90)، نلاحظ من هذه الآيات الثلاث تحديداً، وجود فعل بشري: (ترى)، (وجدها)، وهذه الأفعال تفيد ما يشعر به المدرِك (بكسر الراء) لا حقيقة المدرَك (بفتح الراء)، بخلاف الآيات السابقة الصريحة في ذكر حركة الشمس التي لم يقرنها القرآن بفعل بشري يحتمل الظن، وقد تنبّه لهذه المسألة كثير من الفقهاء والمفسرين الأوائل من مختلف المذاهب، عند نفيهم أن يكون غروب الشمس في عين حمئة حقيقياً (في الآية 38 من سورة الكهف المذكورة آنفاً) ونذكر من هؤلاء المفسرين: القرطبي (ت 671 هـ)، ابن الجوزي (ت 597 هـ)، الرازي (ت 606 هـ)، الماوردي (ت 450 هـ)، ابن عبدالسلام (ت 660 هـ)، الطبرسي (ت 548 هـ).

يقول الرازي في تفسيره لهذه الآية: "الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) من وجوه. الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبقَ بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي (ت 303 هـ) في تفسيره".

وقد أثبت العلم يقيناً وجود حركة الشمس، كما قرر القرآن، ولكن ليس بدورانها حول الأرض كما كان يعتقد، بل بدورانها مع بقية النجوم حول مركز المجرة بسرعة هائلة (أكثر من 22 ألف كيلومتر في الثانية) بما يعرف علمياً الآن بجريان النجوم star streaming وقد اختار علماء الفلك المعاصرون هذا المصطلح لأنه يعبر خير تعبير عن تموج حركة الشمس والنجوم أثناء دورانها، والقرآن لم يستخدم فعل الجريان في مواضع أخرى إلا لوصف حركة الماء والرياح والسفن.

ثم لنأتِ إلى لفظة "الأرض" التي بالمناسبة لا يقصد بها دوماً في القرآن كوكب الأرض كما يتوهم البعض، فهي قد تعني سطح الأرض أو الدنيا أو أرضاً معينة، فالآيات التي ذكرت جرم الأرض كثيرة وتقترن في معظمها بذكر السماوات، ولم يرد في أي منها مطلقاً أن الأرض ثابتة أو أنها لا تدور، إنما هو كلام المفسرين لا كلام القرآن، وأما ما حمل المفسرين الأوائل على الاعتقاد بثباتها، فهو ببساطة توهمهم لشكل حركة الشمس التي كانوا متيقنين من وجودها لأنها، كما ذكرت، وردت صريحة في القرآن فاعتقدوا "هم" أنها دورانها حول الأرض الثابتة بالضرورة كما تُرى للعيان، وهم لا يُلامون طبعاً في هذا الاجتهاد، فقد احتاج العلم مئات السنين ليثبت بشكل قاطع دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وأكثر من ذلك لاكتشاف حركة الشمس التي ما يزال كثير من الناس يجهلون وجودها حتى اليوم.

* كاتب أردني